على الرغم من التقدم الملحوظ للعولمة في جانبها الاقتصادي بصفة خاصة منذ بداية التسعينات إلا أن السنوات الأخيرة شهدت أزمات مالية في بعض الدول النامية أدّت إلى ارتباك النظام المالي والاقتصادي العالمي، مثل: الأزمة الاقتصادية في المكسيك 1994، والأزمة الآسيوية 1997 وفي البرازيل وروسيا 1998، وقد جعلت هذه الأزمات الدول النامية تراجع حساباتها في قضية الاندماج في الاقتصاد العالمي وتسريع الخطى نحو اقتصاديات العولمة، وكان هناك مثال واضح اتخذ خطوات عملية لحماية اقتصاده؛ وهو وضع ماليزيا التي فرضت قيودًا على سياساتها النقدية والمالية، وكذلك جهود مجموعة الـ 15 من خلال اجتماعاتها المتكررة والمطالبة بشروط أفضل للدول النامية في التعاملات الاقتصادية والدولية.
وكانت مقدمة احتجاجات مجموعة الـ 15 من خلال اجتماعات كوالالمبور في نهاية 1997؛ حيث هاجم رئيس الوزراء الماليزي "محاضر محمد" سياسات صندوق النقد والبنك الدوليين، كما أن لكل من مصر والهند دورًا بارزًا في اجتماعات منظمة التجارة الدولية. ولكن توجد بعض التساؤلات لم تجد إجابات حاسمة حول ظاهرة العولمة، منها: هل العولمة حتمية قدرية أم ظرف تاريخي؟ انتقادات العولمة هل تفي بإمكانية التراجع عنها؟ حول هذه التساؤلات أعد أ.د إبراهيم العيسوي -الاقتصادي المصري المعروف- ورقة نقاشية تحت عنوان "العولمة الاقتصادية بين حتمية الاستمرار واحتمالات التراجع" نوقشت هذه الورقة الشهر الماضي بالجمعية العربية للبحوث الاقتصادية والتي تتخذ من القاهرة مقرًا لها.
تناولت الورقة تعريف العولمة الاقتصادية، وانتهت إلى أن جوهر العولمة هو تعميم النظام الرأسمالي على كل أرجاء المعمورة، مع تعرّضه لعمليات تقدير شملت بنيته وأسلوب إدارته وغير ذلك من جوانبه وعناصر تشغيله، استنادًا إلى الثورات التكنولوجية التي شهدها العالم، وبوجه خاص ثورة المعلوماتية والاتصالات، وبجوار التقدم التكنولوجي الذي يعتبر أحد الأركان الهامة للعولمة هناك جانب ذاتي محدد لها؛ وهو الجانب العقدي أو العقائدي، وقد برز هذا الجانب بوضوح إبان انفراط عقد المجموعة الاشتراكية، فقد جرى الترويج لمقولات مثل نهاية التاريخ والانتصار النهائي للرأسمالية، وهي مقولات أيديولوجية بالأساس، وهكذا صارت العولمة تقدم كعقيدة تدعو إلى الأخذ بالرأسمالية كنظام اجتماعي لا بديل له ولا مفر منه!
يرى د. العيسوي أن العولمة ليست حتمية قدرية كما يصوّرها البعض، ولكنها ظرف تاريخي يسيطر ويتطور فيه النظام الرأسمالي، وأن هناك ظروفًا تاريخية سابقة مشابهة لظواهر العولمة الاقتصادية الحالية حدثت خلال الفترة من 1870 وحتى 1913؛ فخلال تلك الفترة حدث تكثيف وتوسيع للمعاملات التجارية والنشاط الاقتصادي عبر الحدود السياسية للدول القومية، وجرت عمليات كبرى لفتح الأسواق وزيادة درجة التكامل بين الاقتصاديات الوطنية من جراء انتقال البشر ورؤوس الأموال على نطاق واسع، وكانت العولمة القومية تعتمد أيضًا على التقدم التكنولوجي؛ خاصة في مجالات النقل والاتصالات، وكما هو حادث الآن ظن عدد كبير من المفكرين ورجال الأعمال أن العالم قد دخل طورًا اقتصاديًا لا رجوع عنه، إلا أن الفترة ما بين الحربين العالميتين وما بعدهما شهدت اتجاه الدول الغربية نحو الحمائية على الرغم من توقيع أولى اتفاقيات الجات في 1947، وبالتالي اتجهت الدول النامية إلى حماية صناعاتها الناشئة، كما حدث تراجع عن العولمة، وهو درس من نتائج تجربة تاريخية في فترة زمنية معينة، وتستخلص الورقة قابلية العولمة للتراجع أو الارتداد إذا ما نشأت ظروف تدعو إلى ذلك.
المقصود بتناقضات العولمة هو ما تفرزه عمليات العولمة من تفاعلات وقوى واتجاهات عامة مضادة تعرقل مسيرتها، وقد تؤدي في مرحلة لاحقة إلى وقف حركتها، ومن أهم هذه التناقضات ما يلي:
- الاتجاهات الكامنة في عمليات العولمة إلى النمو غير المتكافئ والتركز في الثروة وازدياد التفاوت في توزيع الدخل ؛ حيث تتآكل الطبقة الوسطى لحساب الطبقات الفقيرة، ويصدق هذا على تطوّر الأمور داخل الدولة الواحدة، كما يصدق على توزيع الدخل والثروة بين الدول، وخاصة بين الدول المتقدمة والدول النامية، وكذلك تعرُّض بعض الدول للتهميش.
- زيادة احتمالات التعرض للصدمات الخارجية في الوقت الذي تعجز فيه دول كثيرة عن مواجهة هذه الصدمات بقواها الذاتية أو من خلال الدعم الدولي بما في ذلك دول كبيرة كالمكسيك والبرازيل.
- أن ضغوط التنافسية المرتبطة بالعولمة والتسابق على الفوز بالأسواق تجعل الحكومات تتحيز لرأس المال على حساب العمال، فتخفف الحكومات من الضرائب على رجال الأعمال، وتمنحهم الكثير من المزايا والإعفاءات حتى تجتذبهم للاستثمار المحلي وتصرفهم عن التفكير في النزوح للاستثمار في الخارج، وفي نفس الوقت وذات الهدف تعمل الحكومات على الحد من الامتيازات التي يحصل عليها العمال وتحد من اتجاهات رفع الأجور، وذلك بدعوى تخفيض تكلفة الإنتاج ورفع درجة تنافسية المنتجات الوطنية في الداخل والخارج.
- التناقض بين عولمة رأس المال ووطنية العمل، فعلى خلاف صيحة ماركس "يا عمال العالم.. اتحدوا" فإن الرأسماليين هم الذين اتحدوا بالفعل عبر الحدود الوطنية بينما بقي العمال أسرى الحدود الوطنية، وهنا يبرز نوع جديد من عدم التكافؤ في القوى بين العمل ورأس المال يضاف إلى عدم التكافؤ التقليدي بينهما.
- اتجاه الاقتصاد إلى العولمة في غياب حكومةعالمية تملك صلاحيات التدخل لضبط قوى السوق والحد من شطط العولمة.
- الاتجاه العدائي للعولمة انطلاقًا من الشعور لدى الكثيرين من أبناء الدول النامية بأن العولمة تستهدف القضاء على خصوصياتهم الثقافية وتميزهم الحضاري.
في نهاية الورقة حذر د. العيسوي الدول النامية من مخاطر التعامل مع العولمة باستخفاف أو الدخول فيها دون الأخذ برفع قدراتها التنافسية والاستفادة من الاستثناء وفترات السماح التي تتيحها مبادئ تحرير التجارة.
والتنمية التي هي هدف أي اقتصاد؛ خاصة في الدول النامية، لا يصنعها السوق ولا العولمة، وإنما تصنع التنمية بالإرادة الوطنية والتخطيط وفق رؤية مستقبلية طويلة المدى، مع شيء من الحماية المؤقتة التي تأخذ في الاعتبار معايير المنافسة وآليات السوق.
أتت معظم المداخلات المعقبة لتؤيد ما طرحته الورقة من نقاط، وأشارت إلى أن ضعف اقتصاديات الدول النامية يرجع بالأساس إلى سوء الإدارة الاقتصادية والفساد، وأن دخول الدول النامية في اقتصاديات العولمة غير محسوب بمعايير اقتصادية سليمة، ولكنه الخوف والرعب من العولمة، وهو تخوف ليس في محله.